ادعمنا

المنظمات غير الحكومية - Non Governmental Organizations

 

إنّ تقديم الخدمات الاجتماعيّة موجود منذ وجود البشريّة، إذ انطلق أوّلاً من المبادئ الإنسانيّة والدينيّة التي تحثُّ على العطاء ومساعدة المحتاجين. وإنّ تفاقم الأزمات والمشاكل العالميّة، حتّم على مختلف الأطراف التدخل للحد من تداعياتها. لذا تمّ الاتفاق على إنشاء المنظّمات لأنّها تتسم بالاستمراريّة لتتمكن من متابعة القضايا التي كانت تُعالج من خلال المؤتمرات. ومن بين هذه المنظّمات التي نشأت هي المنظّمات غير الحكوميّة، فما المقصود بهذا المصطلح؟ وما هي الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها؟ وإلى أي مدى يوجد توافق حول أدوارها؟

 

تعريف المنظّمات غير الحكوميّة معجميًّا

إنّ المنظّمات غير الحكوميّة مصطلح مركّب من "المنظّمات" و "غير الحكوميّة". فبالاستناد إلى معجم اللغة العربيّة المعاصرة، تُعرّف المنظّمة على أنّها: "هيئة مؤلفة تختصُّ بأعمال معينة تستعين على إنجازها بالمختصّين وتشتمل على مبادئ أساسيّة يلتزم بها أعضاؤها 'منظمة الشّباب/ منظمة الصّحة العالميّة- منظمات جماهيريّة/ غير حكومية/ دولية'." كما غير الحكوميّة تُفيد النّفي، أي نقيض الحكوميّة أيّ التّابعة للحكومة، فلا تتكوّن بالاتفاق ما بين الحكومات، إنّما بالاتفاق بين أفراد عاديّين. فتبعًا لمعجم عربيّ عامّة، إنّ المنظّمات غير الحكومية هي: "منظمات يؤسّسها النّاس خارج الإطار الحكوميّ وهي التي تراقب إجراءات الهيئات الدوليّة مثل لجنة حقوق الإنسان وتُعتبر: -العين الساهرة : -على حقوق الإنسان التي تقع ضمن تفويضها."

 

مفهوم المنظّمات غير الحكوميّة 

يُعرف جاك فونتانيل - Jacques Fontanel المنظّمات غير الحكوميّة على أنها: "'هي مجموعة تجمع حركة، مؤسسة تنشأ ليس باتفاق بين الدّول، لكن بمبادرة خاصة أو مشتركة تجمع أشخاص طبيعيين أو معنويين خواص أو عموميين من جنسيّات مختلفة للقيام بنشاط دوليّ، أي أنها تمتدُّ لدول متعدّدة وليس لها طابع ربحي.'" من خلال هذا التعريف يتضح أنّ إنشاء المنظّمات غير الحكوميّة غير مرتهنًا باتفاقيّة تُعقد بين الدول وإنّما بين أفراد. بالإضافة إلى ذلك تقول تيري ليويس- Terry Lewis: "يخبرنا مصطلح 'منظمة غير حكوميّة' أكثر عما هو ليس كذلك، وليس ما هو عليه. تعمل المنظّمات غير الحكوميّة في مجموعة واسعة من المجالات وتأتي في جميع الأشكال والأحجام. في حين أن كل واحدة فريدة من نوعها، فإن معظمها يشترك في بعض الميزات المشتركة، وهي:

- القيم التي تقودها - الدّافع الرئيسيّ لديهم هو الرّغبة في تحسين العالم الذي نعيش فيه

- غير هادفة للرّبح- ولكنّ يمكنهم تحقيق فوائض يتمّ تخصيصها للعمل في المستقبل

- تحالف يضمّ العديد من المصالح المختلفة، لذلك يوجد العديد من أصحاب المصلحة

- تحكمها لجنة من المتطوّعين- الهيئة الإداريّة

- المنظّمات الخاصة المستقلّة عن الدّولة"

فمن خلال هذا التعريف يتضح أنّه تتعدّد مجالات وأشكال وأحجام المنظّمات غير الحكوميّة إلّا أنّها تلتقي بمميزات مشتركة كما ذُكِر آنفًا.

ويشير وائل علام في سياق تعريف هذه المنظّمات على أنّ: "على المستوى الفقهي لا يوجد تعريف عام للمنظّمة غير الحكوميّة؛ فتعرّف المنظّمة غير الحكوميّة بأنها جماعة مصلحة أو ضغط على أساس أنّ هدف المنظّمة غير الحكوميّة هو دعم مصلحة معيّنة أو تحقيق هدف معيّن." وهنا يكون قد ركّز بتعريفه على أنّ هذه المنظّمات تنشأ من أجل تحقيق غايات معيّنة تعمل عليها.

 

تطوّر المنظّمات غير الحكوميّة

إنّ تقديم الخدمات الاجتماعيّة ليست مسألة حديثة، فقد تطوّر مفهومها مع التطوّر التّاريخي لتعريفها وآليتها ونطاقها وأدوارها. "فالمجتمعات القديمة عرفت شكلًا بدائيًّا من أشكال الخدمة الاجتماعيّـة -هو الإحسان- ولعلّ أقدم أنواع الخدمة الاجتماعيّـة هـي المساعدة الّتي كانت تقدّمها الأسرة أو القبيلـة لأفرادهـا. وفي عهـد الـرّومان، كانت الخدمة الاجتماعيّـة تؤدّى بدوافع سياســـــــيّة ولكنّها كانت أكثر تأثّراً بالروح الشعبية بسبب زيادة انتشار الطبقة العاملة." ومن ثمَّ جاءت الأديان لترسّخ الخدمة الاجتماعيّة انطلاقًا من تعاليمها، وأضحت الهيئات الدّينيّة تقوم بهذا الدّور. إلّا أنّ نشأة المنظّمات غير الحكوميّة في مفهومها الحاليّ تعود إلى القرن الثّامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر في الولايات المتّحدة الأمريكيّة والدّول الأوروبيّة. فمع بروز مبادئ الديمقراطيّة ومحاولة إيجاد الحلول للمشاكل مثل الصّحة وتلك التي تتعارض مع حقوق الإنسان مثل الرّق، نشأ الدور الدّولي لهذه المنظّمات نظراً لوجود مصالح إنسانيّة مشتركة بين الشعوب ولتكريس حقوق الإنسان مثل الحقّ في التجمّع وتكوين الجمعيّات والتعبير عن الرأي وغيرها. وإنّ مؤتمرا مكافحة الرقّ اللذان عقدا في لندن خلال عامي 1840-1843 والمؤتمر الدّوليّ للصليب الأحمر في جنيف خلال 1863-1864 من النماذج الأولى لمؤتمرات المنظّمات غير الحكوميّة التي عُقدت. وتبِعت هذه المؤتمرات تطورات، فأتى "'إنشاء عدد من المنظّمات في أعقاب هذه المؤتمرات الدوليّة غير الحكوميّة، بمبادرة من أشخاص أو هيئات محلية من دول مختلفة وممثلة لشتى المصالح، ومن أهمها: منظمة الاتحاد العالميّ للشبّان المسيحيين عام 1855، ومنظمة اللّجنة الدوليّة للصّليب الأحمر عام 1863، والمعهد القانونيّ الدّولي الذي تمّ تأسيسه عام 1873، والاتّحاد البرلماني الدولي عام 1888، واللّجنة الدوليّة للزراعة عام 1891، ومكتب السّلام العالميّ عام 1892، واللّجنة الأولمبيّة عام 1900'." 

وبعد ذلك تطوّرت أعداد المنظّمات غير الحكوميّة عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية في ظل التنافس بين الدول الغربيّة "'على جني المزيد من ثروات العالم الثالث، ثم توسع كثيراً في الثمانينيات والتسعينيات، إذ بدأ هذا القطاع يمارس نشاطاً ملموساً، ومؤثراً، في فضاءات كانت مقتصرة على القطاع الرسمي للدولة. ولا شك بأن هذا التوسع في إطار الحركة الطوعية، تزامن مع التوجه إلى الحد من الدور التدخلي والمركزي للدولة وإعطاء أهمية متزايدة للقطاع الخاص والأخذ باستراتيجية إعادة الهيكلة الاقتصاديّة، وما أفرزته من تبعات على الفئات المهمشة، مما أدى، بالمنظور النسبي، إلى بروز أهمية جديدة للدور الإسهامي للمجتمع المدني ومؤسساته والذي يُشكّل العمل الطوعي جزءاً أساسياً منه.'"

كما أنّ تطوّرت المنظّمات غير الحكوميّة وارتفعت أعدادها وازداد انتشارها في دول العالم الثّالث مع إنشاء منظّمة الأمم المتّحدة. وخلال الحرب الباردة اتُّخِذت كأداة بين المعسكرين الرأسماليّ والاشتراكيّ لتقوية المجتمع المدني مقابل الدّولة الشموليّة. إلّا أنّ وصول أعدادها إلى ذروتها وتوسع مجالات تدخلها حصل مع انهيار الاتحاد السوفياتي وتزعم الولايات المتحدة الأمريكيّة بالنظام العالمي وما تبعه من متغيرات فرضتها من خلال العولمة والرغبة في تحويل العالم إلى قرية كونيّة صغيرة ونشر معايير الخصخصة والديمقراطيّة والحقوقيّة فأضحت تتدخل المنظّمات غير الحكوميّة في القطاعات التي كانت الدّولة التدخليّة تلعب دوراً فيها. 

 

أهداف المنظّمات غير الحكوميّة

تتنوّع أهداف المنظّمات غير الحكوميّة تبعًا لتطوّرها وتوسّع المجالات والاختصاصات التي ترغب في العمل عليها. فإنها تهدف إلى تعزيز فعاليّة المجتمع المدني إذ تُعتبر وسيلةً هامّةً للتحوّل الديمقراطي ومساهمًا أساسيًّا في خدمة الصالح العام وخدمة المجتمع. كما أنّها تسعى إلى توفير الحماية لحقوق الإنسان وحريّاته إذ أنّها تُحاول أن توعّي المواطنين على حقوقِهم ومتابعة الاضطهادات والأعمال التعسّفية. فتسعى إلى تكوين ثقافة عالميّة لحقوق الإنسان وحمايتها من الانتهاكات من خلال المراقبة والملاحظة والرّصد والتدخل من خلال حشد الرّأي العام والضغط لتغيير السياسات والقوانين. بالإضافة إلى ذلك قد تهدف إلى تخفيف حدّة التّوترات الناتجة عن التّفاوتات الاجتماعيّة. فضلًا عن ذلك تبغي بعض هذه المنظّمات إلى الوقاية من النّزاعات واعتماد الدبلوماسية الوقائية. فتقول مارتينا فيشر- Martina Fischer أنّ المنظّمات غير الحكوميّة "تقوم على سبيل المثال بأنشطة الإنذار المبكر، والدبلوماسية الوقائية عبر تدخل طرف ثالث، وتسهيل ورش عمل الحوار، والوساطة والمفاوضات المعنية بصنع السلام، وشبكات العمل، ومبادرات التفاهم العابرة للثقافات، وبناء العلاقات." وكذلك قد تهدف إلى تعزيز السلام والتعاون بين شعوب العالم وتقديم الخدمات والمساعدات الإنسانيّة للفئات المهمّشة والمساعدة في معالجة التحديات العالميّة والمساعدة في الأزمات والكوارث. علاوةً على ذلك قد تمتلك هذه المنظّمات أهدافًا أخرى كالتأثير في الحكومات والرقابة على أدائها والضغط والمشاركة في صنع السّياسات العامّة وحث الشباب على الانخراط في الحياة السياسيّة. إلى جانب ذلك قد تهدف إلى إعداد الأبحاث والتقارير بمختلف الأشكال وإحداث التغييرات الاجتماعيّة والسياسيّة داخل المجتمعات.

 

تصنيف المنظّمات غير الحكوميّة

كما عُرِض مسبقاً أنّه تتعدّد أهداف المنظّمات غير الحكوميّة ومجالاتها، لذا من الطبيعي أن تتعدّد تصنيفاتها. فلا يوجد تصنيف علمي واحد وإنّما تتنوّع باختلاف الباحثين ودراساتهم والمعايير والمحدّدات التي تُعتمد في التصنيف. وأبرزها تتمثّل فيما يلي:

- على أساس امتداد نشاطها: واستنادًا إلى هذا المعيار إنّها تُقسم إلى المنظّمات غير الحكوميّة المحليّة وإلى المنظّمات غير الحكوميّة الدوليّة. فتكون "هذه المنظّمات وطنية إذا انحصر نطاق عضويتها ونشاطها في الحدود الوطنية لدولة ما، وتكون منظمات دوليّة متى ما تجاوزت في عضويّتها ونشاطها الأبعاد الوطنيّة للدول." فالمنظّمات غير الحكوميّة المحليّة التي يمتدُّ نشاطها في دولة واحدة قد تكون وطنيّة أو أجنبيّة

- على أساس مجال توجّهها: فبالاستناد إلى هذا المعيار تنقسمُ المنظّمات غير الحكوميّة إلى منظّمات ذات توجّه خيري خدماتي أي التي تسعى إلى توفير الخدمات بمختلف أنواعها كالصحيّة والتعليميّة، ومنظّمات ذات توجّه تنمويّ أي التي تقوم بمشاريع تنمويّة تنطلق من نقصها في المجتمعات، ومنظّمات ذات توجّه تمكيني أي تمكين مختلف الفئات المهمّشة لتوعيتهم على مختلف الظروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة التي تؤثر على حياتهم وتقوية قدرتهم على التحكّم بها.

- على أساس مجال تخصّصها: تتنوّع التصنيفات في هذا المجال فقد تكون منظّمة غير حكوميّة صحيّة أو دينيّة أو بيئيّة أو تعليميّة أو رياضيّة أو إنسانيّة أو سياسيّة أو تلك التي تُعنى بالمرأة أو بالطفل. ولا تقتصر المنظّمات على هذه التصنيفات وانما قد يكون لها اختصاصات أخرى كحماية الآثار أو حماية الحيوانات أو أي اختصاص آخر. فالاختصاصات تتطوّر مع التطوّر التاريخي أو الأحداث، وكذلك تبعًا لقوانين الدّولة التي تنشأ فيها المنظّمة.

 

نماذج عن المنظّمات غير الحكوميّة في بعض الدّول

تنتشرُ المنظّمات غير الحكوميّة بأعداد هائلة حتّى باتت تُشكّل قطاعًا قائمًا بحدّ ذاتِه. وستُعرض بعض النماذج عن عمل هذه المنظّمات في بعض الدّول مثل هايتي ولبنان:

- المنظّمات غير الحكوميّة في هايتي: تُعد هايتي من بين أعلى الدول نسبة في أعداد المنظّمات غير الحكوميّة المنتشرة فيها، حيث تشير الإحصاءات في مختلف الدراسات والمقالات إلى أنّه "يقدّر عدد المنظّمات غير الحكومية العاملة على الأرض بـ 10،000 منظمة". حتّى بات "يُشار إلى هايتي باسم 'جمهوريّة المنظّمات غير الحكوميّة'". فيُشار إليها بهذا الاسم نظراً لتدني فعاليّة الحكومة وسيطرة هذه المنظّمات على تأمين الخدمات والمساعدات للمواطنين. فيعود اهتمام هذه المنظّمات إلى عقود من الزمن في ظل كل ما تُعانيه من اضطرابات سياسيّة وأزمات اجتماعيّة وكوارث طبيعيّة، إلّا أنّ تعاظمت أعداد المنظّمات فيها أكثر بالأخص بعد الزلزال الذي شهدته هايتي في العام 2010 وخلّف دماراً وأضراراً فاضحة في البنى التحتيّة والمدن وخسائر بشريّة هائلة ما بين القتلى والجرحى والمفقودين والمشردين، فهذا ما رفع عدد المنظّمات غير الحكوميّة من 3,000 قبل الزلزال إلى 10,000 بعده. حيث أنّ الحكومة لم تكن قادرة على مواجهة تداعيات الزلزال والحد من المعاناة التي سبّبها، فتدخلت المنظّمات لتلبية احتياجات المواطنين. حيث أصبح المواطنون يعتمدون عليها بدلاً من الحكومة لتأمين مستلزماتهم المعيشيّة. وبذلك تعمل هذه المنظّمات دون التنسيق مع السلطات الرسميّة وتحصل على المساعدات الهائلة والمتعدّدة من المنظّمات الدوليّة والدّولة الأجنبية مباشرةً منها لأنها تثق بها أكثر من السلطات الرسميّة. ولكن على المقلب الآخر طُرِحت العديد من التساؤلات حول مدى فعاليّة هذه المنظّمات ومدى قدرتها على تحسين ظروف الهايتيين، فتقول مارغوت باتيرسون- Margot Patterson: "سميت هايتي جمهورية N.G.O.s، يوجد عدد أكبر من المنظّمات غير الحكومية لكل فرد في هايتي أكثر من أي بلد آخر. إذا كان الفقر المدقع في البلاد يفسر وجودهم من ناحية، فإنه يثير أيضًا تساؤلات حول فعاليتهم. هل المنظّمات غير الحكومية - وغيرهم من الأشخاص الذين يأتون إلى هايتي للمساعدة - يفعلون الكثير من الخير؟"

- المنظّمات غير الحكوميّة في لبنان: يُعتبر لبنان أيضًا من بين الدّول الأعلى نسبة في أعداد المنظّمات غير الحكوميّة حيث يشهد طفرة في أعدادها مقارنةً بحجم الدّول اللبنانيّة وعدد سكانها. ويعود ارتفاع أعدادها إلى مجموعة من الظروف التي كرّست وعزّزت الحاجة إليها وجعلتها تتدخّل في كافة الميادين. فالظروف التاريخيّة التي تتمثّل بالعهد العثماني وضعف الدّولة العثمانيّة واستغلال الدّول الأجنبيّة لضعفها والتركيبة الطائفيّة للبنان، دفع هذه الدول إلى إرسال البعثات وانتشار الإرساليّات التبشيريّة الأجنبيّة التي شكلت مؤسسات تابعة لها. وكذلك كل ما شهده لبنان من حروب كالحرب الأهلية في العام 1975 وحرب تموز 2006 والحراكات التي شهدها كثورة الأرز في العام 2005 وحراك تشرين الأوّل في العام 2019 أثرت على زيادة نفوذ هذه المنظّمات. وكذلك إنّ الأزمات الاقتصاديّة والماليّة التي يشهدها لبنان كإنهيار سعر صرف العملة الوطنيّة (حيث أضحت اليوم 40,600 ليرة لبنانيّة في السوق السوداء مقابل سعر صرف الدّولار الواحد الذي كان 1,500 ليرة لبنانيّة قبل الأزمة)، أدّت إلى انهيار القدرة الشرائيّة للمواطنين وارتفاع نسبة البطالة وتفاقم الأزمات والمشاكل الاجتماعيّة وارتفاع معدلات الفقر. فتبعًا لتقرير مرصد الاقتصاد اللّبناني الصّادر عن البنك الدّوليّ بعنوان "لبنان يغرق نحو أسوأ (ثلاث أزمات عالميّة)": "أدّت الأزمات المتعدّدة إلى تفاقم البطالة. فقد واحد من كل خمسة عمال وظائفهم منذ أكتوبر 2019". بالإضافة إلى الظروف السياسيّة وعدم الاستقرار السياسيّ وعجز الدّولة عن إيجاد حلول للأزمات ووضع سياسات عامة لمختلف القطاعات وغلبة المحاصصة والفساد بمختلف أشكاله الذي ساهم في ضعف الثقة في الدّولة والبحث عن بدائل. كما أنّ الأزمات الإقليميّة كالأزمة الفلسطينية والأزمة السورية ساهمت بتدفق اللاجئين والنازحين ممّا أثار اهتمام المنظّمات أيضًا. كل هذه الظروف التي طرحناها وغيرها من الظروف الصحيّة أدّت إلى توفير البيئة المناسبة والأرضيّة الخصبة للمنظمات غير الحكوميّة لتعمل في لبنان ولمحاولة كسب ثقة اللبناننين بها في ظل ضعف ثقتهم بالدّولة، فأضحت تتدخّل في الميادين التي عجزت الدّولة عن إيجاد حلول لها ومحاولتهم في القيام بمشاريع تُخفّف من تداعيات الأزمات. كما أضحى البعض منها يقيم علاقات مع منظّمات دوليّة ودول أجنبيّة لتوفّر الدعم المالي لها لمتابعة أنشطتها. فتفاقم انتشارها؛ حيث تتفاوت أعدادها بمختلف الدراسات إذ لا يوجد إحصاء دقيق حولها، إلّا أنّه هناك دراسة تشير إلى أنّه: "بشكل عام، يُقدّر عدد المنظّمات غير الحكوميّة بنحو 15000 تخدم حوالي أربعة ملايين نسمة." واستطاعت بعض المنظّمات غير الحكوميّة أن تؤثر سياسيًا من خلال المشاركة في حراك تشرين الأول 2019، كما من خلال وصول رئيسها أو عضو فيها إلى مناصب سياسيّة كما حصل خلال الانتخابات النيابية التي أُجريت في أيار 2022.

 

آراء مختلف الباحثين حول دور المنظّمات غير الحكوميّة

إنّ العلاقة بين المنظّمات غير الحكوميّة والدّولة تختلف من دولة إلى أخرى، لذا إنها تتّصف بالتكاملية عندما يكون هناك توافق بينهما، وتتسم بالتعارضيّة عندما تحاول كل جهة إلغاء الطرف الآخر. لذا هناك تعدّد آراء بين مختلف الباحثين حول المنظّمات غير الحكوميّة، فالبعض يقر بدورها الإيجابي والبعض الآخر يقر بدورها السلبي:

- الآراء المؤيدة لدور المنظّمات غير الحكوميّة: يعتبرُ أصحاب هذا الرأي أنّ المنظّمات غير الحكوميّة جاءت لتكرّس مبادئ الديمقراطيّة ولتجد حلولاً للمشاكل والتحديات التي تواجه العالم على مختلف الأصعدة. فيقول كارل ميلوفسكي- Carl Milofsky: "مُنِحت المنظّمات غير الحكوميّة المسؤوليّة الأساسيّة في حل المشاكل الاجتماعيّة المعاصرة." كما أنّ البعض يشيد بدورها في تعزيز العلاقة بين الأفراد والجماعة الدوليّة وتعزيز التعاون، فيقول بيير جيربييه- Pierre Gerbier: "قد سبقت المنظّمات غير الحكوميّة الدّول في طريق التّعاون وحثّتها على خلق منظّمات بين الحكومات وبهذا فإنّ الرّابطة الدوليّة لحماية العمال قد أوجدت الاتفاقات الأولى بين الحكومات وهي الّتي أدّت في سنة 1919 إلى مكتب العمل الدّولي وباستمرارها على لعب الدّور الدّيناميكيّ الخلّاق، وهي ستشترك بدون شكّ في توجيه التطوّر نحو تخفيف سلطات الدّولة في التنظيم الدولي، ونحو رباط أفضل بين الأفراد والجماعة الدوليّة."وبذلك يقر أصحاب هذا الرأي بأنّ إيجابياتها تفوق سيئاتها إذ يشير هانز درش- Hans Dersch: "'قد يصح اتهامها بالسياسة والتسييس ولكنّ خير المنظّمات (غير الحكوميّة) أقوى من شرها'." أي أنّ على الرّغم من كلّ ما قد تؤثّر به سلبًا، لا يمكن الاستغناء عنها. 

- الآراء المعارضة لدور المنظّمات غير الحكوميّة: على المقلب الآخر هناك من يؤمن بدورها السلبيّ حيث تعتبر الآراء المعارضة أنّ المنظّمات غير الحكوميّة تسعى للتّدخّل في الشّؤون الدّاخليّة للدّولة، كما أنّها تستطيع أن تغيّر الأوضاع السياسيّة داخل دولة ما لصالح دولة أجنبيّة كونها وفقًا لاعتبارهم أنّها تابعة، إذ أنّ الدّول النّامية هي في الأساس تابعة للدّول المتطوّرة. فيقول منير شقيف في هذا الصّدد: "أخذت عدوى تشكيل المنظّمات غير الحكوميّة تنتقل إلى بلدان العالم الثالث، الذي يُفترض به أن يكون تابعًا ومن ثمّ يُفترض بها أن تكون تابعة، ما دامت غير منبثقة مباشرة من قلب المجتمع وغير مدعومة ماليًّا ومعنويًّا ومحميّة من قِبله." فيعتبر شقيف أنّ العولمة هي الّتي أتت بالمنظّمات غير الحكوميّة بتشجيع من سياسات البنك الدّوليّ وصندوق النّقد الدّوليّ والحكومات الغربيّة لتتّخذ من هذه المنظّمات أداة استراتيجيّة دوليّة في المنطقة العربيّة. بالإضافة إلى ذلك، ينتقد جوزيف مسعد تأثير المنظّمات غير الحكوميّة ويعتبر أنّ دورها إمبرياليّ. حيث يلفت الانتباه إليها على "أنّها 'تتنافس مع النظام القائم' في ما وصفه ب 'نيل رضا ليبراليي الولايات المتحدة وأوروبا الغربية الذين يموّلونها'، مشدداً: 'نحن أمام هجمة شرسة هي جزء من دعاية عالميّة تختزل التحليل والفكر بشعارات سطحيّة واهية يجري تبنيها على أنّها قمّة العمق والتحليل الفكري والمفاهيمي.'" أي أنّ مسعد قد أشار إلى استغلال هذه المنظّمات من قبل الفاعلين في النّظام العالميّ الحالي ويعتبرها أنّها تروّج شعارات لليبراليّين من دون فهم أبعادها.

 

لذا إنّ للمنظّمات غير الحكوميّة أهميّة لا يُمكن الاستهانة بها في معظم المجالات وهي باتت شريكة في تحسين ظروف المواطنيين ولا يُمكن إلغاء وظائفها الاجتماعيّة والحقوقيّة والتمكينيّة والاعلاميّة. ولكن يبقى السؤال ما هي الخطوات التي يمكن اتباعها لضمان حياديّة المنظّمات غير الحكوميّة بعيدًا عن التسييس وذلك لتبديد المخاوف التي قد تُطرح حولها؟

 

 

 

المصادر والمراجع:

أحمد مختار عمر، معجم اللغة العربية المعاصرة، المجلد الأول، عالم الكتب، الطبعة الأولى، مصر، 2008.

معجم عربي عامة، تعريف المنظّمات غير الحكوميّة، موقع معجم المعاني، تاريخ النشر غير محدّد، تاريخ آخر دخول: 20-11-2022 الساعة: 12:50.

نصيرة صالحي، رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه بعنوان: دور المنظّمات الدوليّة الحكوميّة في تفعيل بناء السلام لما بعد النزاع في ظل التحولات العالمية الراهنة، كلية الحقوق والعلوم السياسيّة، جامعة باتنة الحاج خضر، الجزائر، 2019- 2020.

وائل علام، المركز الدولي للمنظّمات غير الحكوميّة في الأمم المتحدة، دار النهضة العربية للنشر والتوزيع، مصر، 1998.

مصلحة النشاطات الاقليمية في وزارة التصميم العام، الخدمات الاجتماعيّة الأهلية في لبنان، دار النشر غير محدّد، لبنان، 1965.

صالح البوفلاح، رسالة أعدت لنيل درجة الماجستير بعنوان: دور المنظّمات الدوليّة غير الحكوميّة في القانون الدولي لحقوق الإنسان، كلية الحقوق، جامعة الشرق الأوسط، عمان، 2016.

كامل مهنا، في التطوع والمجتمع المدني مؤسسة عامل أنموذجاً، دار الفرابي، الطبعة الأولى، لبنان، 2013.

مارتينا فيتشر، المجتمع المدني ومعالجة الأزمات: التجاذبات والإمكانيات والتحديات، ترجمة يوسف حجازي، مركز بحوث برغهوف للإدارة البناءة للأزمات، الطبعة الأولى، برلين،2006 .

وسام السعدي، تطور وظائف المنظّمات الدوليّة غير الحكوميّة، دار الفكر الجامعي، الطبعة الأولى، مصر، 2014.

بيير جيربييه، المنظّمات الدوليّة نشأتها وتطورها، ترجمة محمد سليمان، دار الكتب المصرية، مصر، 2021.

الشروق، نشر مقال لفوزي بوخريص بعنوان: المنظّمات غير الحكوميّة: خيرها أقوى من شرها، موقع الشروق نقلاً عن مؤسسة الفكر العربي، 03-11-2016.

منير شقيف، تنمية إنسانية أم عولمة دراسة تحليلية نقدية لتقريري التنمية الإنسانية العربية لعامي 2002 و 2003، دار الطليعة، الطبعة الأولى، لبنان، 2004.

مركز المعارف للدراسات الثقافية، الوجه الآخر للمنظّمات غير الحكوميّة، دار المعارف الإسلامية الثقافية، الطبعة الأولى، لبنان، 2020.

Hannah Marqusee, article titled: Mapping the “Republic of NGOs” in Haiti, published on New Security Beat, date not mentioned, last visited date: Tuesday 29-11-2022 at 12:13.

Margot Patterson, Article titled: Are N.G.O.s in Haiti doing more harm than good?, published on: America magazine, publication date: 22-02-2018, last visited date: 29-11-2022 at 13:40. 

World Bank Group, Lebanon Economic Monitor Lebanon Sinking (To the Top 3), Document of the World Bank, Spring 2021.

Alexander R. Dawoody, Khaldoun AbouAssi, Public Administration and Policy in the Middle East, Springer Science and Business Media, New York, 2015.

Carl Milofsky, Community Organizations Studies in Resource Mobilization & Exchange, Oxford University Press, New York, 1988.

Terry Lewis, Financial Management Essentials A Handbook for NGOs, Financial Management Essentials A Handbook for NGOs, Mango, United Kingdom, 2017.

 

إقرأ أيضاً

شارك أصدقائك المقال

ابقى على اﻃﻼع واشترك بقوائمنا البريدية ليصلك آخر مقالات ومنح وأخبار الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ

ﺑﺘﺴﺠﻴﻠﻚ في ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ البريدية، فإنَّك ﺗﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻰ اﺳﺘﻼم اﻷﺧﺒﺎر واﻟﻌﺮوض والمعلوﻣﺎت ﻣﻦ الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ - Political Encyclopedia.

اﻧﻘﺮ ﻫﻨﺎ ﻟﻌﺮض إﺷﻌﺎر الخصوصية الخاص ﺑﻨﺎ. ﻳﺘﻢ ﺗﻮفير رواﺑﻂ ﺳﻬﻠﺔ لإﻟﻐﺎء الاشترك في ﻛﻞ ﺑﺮﻳﺪ إلكتروني.


كافة حقوق النشر محفوظة لدى الموسوعة السياسية. 2024 .Copyright © Political Encyclopedia